فييرا لأولسن

أكبر المفارقات المرتبطة بمنتخبنا الكروي والتي يمكن الاستدلال عليها بسهولة ، أن فييرا كتم كثيراً من مشاعره وطوى حزنه طويلاً حين قـَبـِلَ بمبلغ زهيد ووافق على العمل من أجل الوصول بنا إلى أعلى سقوف الانجاز الكروي في تأريخنا وهو الفوز بكأس آسيا ، في حين لم يقبل النرويجي أولسن مباشرة العمل إستعداداً للمرحلة الأولى من تصفيات كأس العالم إلا حين وافقنا على منحه مبلغا كبيراً لم يُدفع في يوم من الأيام لأي مدرب أجنبي عمل في العراق منذ ولادة إتحاد الكرة العراقي عام 1948 .. لكن هذه المفارقة ، على ما تحمله من تباعد في نظرتنا إلى كلا المدربين والى تناقضنا في تقييم الناس ووضعها في مقاماتها ، لن تزيح فييرا من الذاكرة العراقية ما دامت هذه الذاكرة طرية وقادرة على إستحضار الحوادث والرموز الكبرى .. ففي مقابل (فتات) الأموال تمكن فريق فييرا وفي غضون أسابيع معدودة من أن يجعل الكرة في العراق موضع حديث وفخار القارة الآسيوية ، هذا إذا لم نقل إن عدوى الإعجاب الايجابية تحولت على متن صاروخ إلى العالم كله فصار ينظر إلى المنجز الذي حققه أسود الرافدين وكأنه لحظة تأريخية فيها الكثير من علائم الإعجاز الإنساني !
وإذا كان فييرا ومعه لاعبونا قد حققوا كل ذلك بعد أن إنطلقوا من نقطة لم تكن فيها قناعات الكثيرين مهيأة للحديث عن الفوز بكأس آسيا ، فماذا في وسع أولسن الذي إفترشنا له الأرض وروداً وسعينا إلى التعاقد معه وقد تدافعنا بالمناكب وقبلنا الكثير من شروطه من دون مماطلة أو حتى مراجعة ؟!
أتصور أن سؤالاً كهذا يبدو ملحّاً ونحن في مرحلة كروية تتوسط محطتين ، الأولى فوزنا باللقب الآسيوي وتحول فريقنا بقيادة مدربه حسن الصيت إلى موحد لقلوب ومشاعر العراقيين والى الحد الذي إكتشفنا فيه أن أكثر الناس غلوا في الابتعاد عن الكرة هم الذين خرجوا إلى الساحات والشوارع العامة كي يحتفلوا بمشهد الفرح الذي طال انتظاره وواجهوا الموت بصدورهم الفولاذية .. أما المحطة الثانية فهي تصفيات التأهل إلى المونديال .. وعلينا ألا نقبل بأي لون من ألوان الاستهانة بحدث كهذا حتى لو كانت البداية مع باكستان ، فالطريق طويلة وهي ملأى بالعقبات وتستدعي إستحضاراً بدنياً ومهارياً ونفسياً وإدارياً يفوق ما كان يستدعيه الذهاب إلى كأس آسيا..
رأينا أولسن يتفاعل معنا ، ويضع انجازنا الآسيوي في مكانه ، ولهذا فهو يعرف معنى التحدي الذي يخوضه ، وحتى الآن يبدو كل شئ واقعياً ومنطقياً في حسابات المدرب النرويجي ، لكننا حتى الآن لم نكتشف توجهاته الميدانية الحقيقية ، وهو أمر يستلزم بعض الوقت ، وسرعان ما سنكتشف القدر الذي يدّخره أولسن للكرة العراقية بعد أن تعامل معنا في إعتداد شديد بمكانته كمدرب ، خلافاً للمدرب فييرا الذي لم تكن طلباته كثيرة ولم يتأخر في وضع إمضائه من دون أن يدري أنه سيقودنا إلى مجد كروي لم نعرفه في يوم من الأيام . فييرا يترك الكثير لأولسن .. يترك له منتخباً فائزاً بكأس قارة .. يترك له شعباً يتغنى بفييرا ويكاد يضمه إلى صفوفه جنسية ً وإنتماءً .. يترك له مواهب كروية كلها حرص وغيرة وتفاعل وكلها حضور حين تختبر المواقف الرجال بأفعالها لا بما تقول .. يترك له قارة آسيوية كاملة تتربص بالمنتخب العراقي وتريد في تصفيات كأس العالم تجريده مما لم تتمكن من إنتزاعه في كأس آسيا .. ومؤكد أننا إذا تسللنا إلى عقل أولسن لوجدناه يمور بحسابات كهذه وبحسابات أبعد من ذلك بكثير .. فييرا يترك لأولسن قفاز التحدي ، ويترك لإسمه العالمي الكبير في مجال التدريب فرصة العمل مع شعب كروي يعرف قيمة الانجاز والفرح .. وعليه فإن الأمر الوحيد الذي لم يتركه البرازيلي للنرويجي هو فرصة النجاة باسمه وسمعته إذا لم يقد منتخبنا الكروي إلى نهائيات كأس العالم.

مشكـــــــــــــور